الجسم القضائي يُخرج غادة عون… متى يولد استقلاله؟
أعارت القاضية غادة عون رأسها للريح، وتفلتت مسلكياً من الضوابط القانونية، لكنها تؤمن أن القضاء في خدمة العدالة والعدالة لا تتحقق في قضاء تنخره السياسة والمحسوبيات. هي مخالفة للتركيبة “السايكوسياسية”، وما فعلته في الأيام الماضية ليس سوى استدراج لألم داخلي، وهي التي يُجمع الكل على نزاهتها بالمعنى الأخلاقي والمادي، مما تعرضت وتتعرض له من استهداف ممنهج وبشع لشدة ضحالته على المستوى السياسي والشخصي، تولته ماكينات سياسية وإعلامية هالها أن تمس تحقيقات القاضية عون برموز السلطة والمال.
كأن صورة لبنان المنتظم في دولة القانون والمؤسسات وبالرفاه المالي والاقتصادي والاجتماعي، تهشّمت من تهوّر عون، هذا التهوّر الذي يؤيده كُثر في مكنوناته الداخلية انتقاماً من جماعة اللاعبين بالليرة والدولار وبكميات مهولة تبدو سوريالية للمواطنين العاديين الذين يَعِدّون ما في جيوبهم عشرات المرّات يومياً لاحتساب ما سيصرفونه لشراء قوتهم اليومي.
نعم هؤلاء يرغبون بإيجاد عشرات المتهورين على مثال غادة عون لاستعادة أموالهم ومحاكمة السارقين. قد تكون الشركة المستهدفة من “غارات” عون غير متورطة بالنهب المنظم للمال العام ولمدخرات الناس، لا أحد يعلم ولكن كل تجّار المال ومحوليها إلى الخارج عليهم أن يقدموا للتحقيقات المالية أوراق “براءتهم” أو “تورطهم” لتطمئن العدالة ويطمئن الناس إلى وجود المحاسبة القانونية على كل ما أوصلهم إلى الجحيم.
لا يهم الشعب اللبناني الذي يحكم باسمه القضاء تحت قوس العدالة العلاقة بين رئيس ومرؤوس في الجسم القضائي ولا الخلاف السياسي والعقائدي بينهم، قد تُعاقب غادة عون على سلوكها المتمرد بالعزل أو الانكفاء، لكن ما هو مصير التحقيقات المالية التي بدأتها عون والتي رفض الجميع التعاون فيها من رؤساء بنوك وصيارفة وتجار الدولار وغيرهم ممن هرّبوا الأموال إلى الخارج وأفرغوا الخزنات والبنوك من العملات الصعبة خلال أقل من عامين؟
انهيار السلطات تباعاً يعني ملامسة نقاط “اللاعودة” على كافة المستويات، والطرق التقليدية لن تنفع. الخطابات التافهة مستمرة، وأموال الناس في مهب صراعاتهم العبثية. والمعادلة بسيطة: أو سارق أو مسروق! هذا ما يقوله الأستاذ في القانون الدولي أنطوان صفير.
ووسط هذه الفوضى والانهيارات المتتالية يجد صفير أن “هناك أزمة قضاء، والسؤال ما هي الخطوات المطلوبة من القضاء في سبيل فتح ملفات الفساد؟. برأيي لا يوجد قرار سياسي لفتح ملف أحد”.
وفي حين اعتبر أن ما حصل في عوكر فجيعة والمشكلة قبل عوكر وفيها وبعدها، رغم كل المشاكل الاقتصادية لم يتم فتح أي ملف. وما حصل هو أزمة وطنية في القضاء وللقضاء، لدينا أزمة والطبقة السياسية حولت الدولة الى مزرعة”.
قانونياً خالفت عون القواعد فالقضاء كما الإمرة العسكرية في الجيش، وهناك تراتبية وسلطة هرمية والنيابات العامة جميعها تقع تحت أمرة النائب العام التمييزي فهو الذي يوجه.
لكن هذا الملف بالتحديد، “له صلة بالشأن العام فهناك قضية مالية ضخمة تمّ التحقيق فيها وقد درسته النيابة العامة المالية وادّعت فيه وأحالته إلى قاضي التحقيق في بيروت، الذي منع المحاكمة واستأنفته النيابة العامة المالية وهو اليوم أمام الهيئة الاتهامية في بيروت” يقول صفير. وهذا التحقيق يجب أن يستمر وفق أصول المحاكمات ولا يقف عند ما حصل في عوكر ولا عند الخلاف بين القضاة.
وهناك هيبة القضاء، الذي عرّض نفسه للتهكم عند الناس، وهو أصلاً لم يكن أبداً يملك الصورة المثالية التي يرتجيها المواطن من الجسم القضائي.
هذه معضلة حقيقية بحسب صفير، أن الانهيار طال كل شيء، والاصطفاف القضائي الذي تحدّثت عنه وزيرة العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى ونادي القضاة أيضاً والأمر معروف وغير سري، لكنه يخرج إلى العلن بشكل مفجع. وهذا يعني أن العدل والعدالة في خطر. وعلى القضاء أن يسير بشكل جدي في التحقيق بالقضايا العالقة والتي تمس المواطنين والوطن ومؤسساته بشكل شفّاف وعادل دون أي اعتبار للسياسة والسياسيين.
استقلالية القضاء حتى الآن شبه معدومة، نعم هناك قضاة مستقلّون لكن السياسة تنغل في السلطة القضائية بين من توزيع حصص التعيينات القضائية وصولاً إلى التحقيقات في قضايا كبرى حتى تلك الصغرى الفردية.
استقلاليّة القضاء حلماً بعيد المنال حتى هذه اللحظة، تماماً مثل جميع أحلام اللبنانيين.
من أجل محاسبة المسؤولين والمرتكبين، لا بدّ من سلطة قضائيّة محايدة ومستقلّة وغير مرتهنة للطبقة السياسيّة تستطيع تطبيق القانون وتحقيق العدالة ورفع الظلم ومحاسبة الظالم.
قد يبدو المطلب أفلاطوني صورته الوحيدة موجودة في كتاب أفلاطون “الجمهورية” ولا يمكن تطبيقه على أرض الواقع وحتماً على الأراضي اللبنانية، التي تعاني من الاهتراء في كافة المجالات.
مطلب استقلالية القضاء ليس مستجداً، فمنذ قيام دولة ما بعد الطائف والتجاوزات والانحلال تراكم نتيجة انتشار التقسيمات الطائفية، وأيديولوجيا الحصص السياسية والحزبية التي تغلغلت في مفاصل السياسة والعسكر والمال والقضاء، حتى وصل البلد إلى الانهيار الكبير.
وبعد انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019 وعقب مجزرة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 والانهيار المتسارع مالياً واقتصادياً ومن أجل محاسبة المسؤولين والمرتكبين، تداعت الأصوات المنادية من أجل سلطة قضائيّة محايدة ومستقلّة وغير مرتهنة للطبقة السياسيّة تستطيع تطبيق القانون وتحقيق العدالة والمحاسبة.
في شباط 2021 أطلقت “المفكرة القانونية” ائتلاف “استقلالية القضاء” بمشاركة أكثر من 50 مجموعة وحزباً سياسي ومنظّمة حقوقيّة. وقدّم الائتلاف مسودّة اقتراح قانون لاستقلال القضاء الإداري.
هذا الاستقلال بحسب مؤسس المفكرة المحامي نزار صاغية ليس صعباً ويقوم على فكرة “استقلال القضاء وتالياً تحريره من هيمنة السلطة الحاكمة شرط أساسي لبناء الدولة الديمقراطية العادلة والفاعلة ومحاسبة المرتكبين ووضع خطوط حمر في وجه أي حاكم، مشدّداً على أهميّة قدرة المؤسّسات القضائية على حماية حياة المواطنين وحقوقهم وحريّاتهم من دون منّة من أحد”.
في تصريحات، عقب الاجتماع “الناري” مع الجسم القضائي بعد “تمرّد” القاضية غادة عون، دعت وزيرة العدل ماري كلود نجم رئيس لجنة الإدارة والعدل النيابية النائب جورج عدوان إلى الإسراع بإقرار قانون استقلالية القضاء “فوراً”.
منذ أسبوع عقدت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل، والمكلفة درس قانون استقلالية القضاء، جلسة برئاسة عدوان جرى خلالها النقاش حول اقتراح القانون المذكور، على أن يستكمل درسه في جلسات لاحقة.
واللجنة تجتمع بشكل دائم في حضور وزيرة العدل ماري كلود نجم ونقيب المحامين في بيروت ملحم خلف ونقيب المحامين في طرابلس محمد المراد وبعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى وعدد من النواب.
النص القانوني هام و”لكن القانون وحده لا يكفي”، بحسب عدوان، لتحقيق إستقلالية القضاء، إنما شخصية القاضي ونفسيته وقناعته بأهمية دوره في المجتمع بتحكيم ضميره كونه يحكم بإسم الشعب اللبناني.
أبرز ملامح مشروع قانون استقلالية القضاء تبدأ من معايير تأليف مجلس القضاء والتشكيلات القضائية والشروط المتبعة، يقول عدوان، على أن يتم الإعلان عن المعايير المتبعة في تشكيل معهد الدروس القضائية الذي سيحمل تصوراً جديداً، في الوقت المناسب.
ويتحدث عن ضرورة تفعيل دور التفتيش القضائي، الذي يحتاج لتنظيم وجدّية بتأمين الأدوات اللازمة لمتابعة العمل القضائي وإزالة الشوائب.
المشهد كاملاً، يحتاج لتصحيح والدعوة التي أطلقتها وزيرة العدل لانتفاضة قضائيّة في وجه الذهنيّة القائمة، ليست فارقة هناك حاجة فعلية لانتزاع كافة الأمراض من الجسم القضائي بدءاً من قانون ينظم عملها وصولاً إلى إرادة صلبة لدى القضاة بكف أيادي السياسيين عنهم. كما يقول قاضِ مخضرم، ويتابع أنه على القضاة الوقوف وقفة ضمير اليوم وتنفيذ قسمهم القانوني وإحقاق العدالة والعمل اقتلاع بؤر الفساد من جذورها، ووقف تهريب ملفات قضائية لطمس الحقيقة وقطع يد من يريد حماية جميع من كان سبباً في إفقار اللبنانيين ونهب جنى عمرهم.
مجلس القضاء الأعلى، يعقد إجتماعاً إستثنائياً الاثنين، لبحث مخالفة النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، قرار النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات كفّ يدها عن النظر في القضايا المتعلقة بالجرائم المالية والقتل والمخدرات.
وبحسب المعلومات أن القضاة الثلاثة سهيل عبود وغسان عويدات وبركان سعد الذين حضروا الاجتماع الطارئ في وزارة العدل، أجمعوا على ضرورة محاسبة القاضية غادة عون، وأن قرار القاضي عويدات بعزلها نافذ، وتبناه مجلس القضاء الأعلى بالإجماع. قد تخلص قرارات الهيئة التأديبية إلى أن يُحال القاضي إلى التفتيش القضائي أو تسقط عنه كل التهم.
لكن يبقى على التفتيش القضائي أن يباشر التحقيق في ملف آداء القضاء ككل وهو يحتاج إلى تقييم ومراجعة شاملة ومحاسبة صارمة للمتخاذلين عن جلب حقوق الناس تحت إمرة القانون.
رانيا برو